ثم يقول: "وقد أخفيت شكوكي الدينية عن أهلي؛ ذلك أني قلت مرة لمن كان في الدار: إني مؤمن بـ
المذهب النفعي في الأخلاق، فقابلوني بعاصفة من السخرية حملتني على أن أمسك عن التعبير عن فكري أمام أهلي".
وهذه قضية مهمة؛ فبعض الناس لا يترك لابنه الفرصة ليعبر عما يعتقده أمامه، فهو حين قام يتكلم أمام أهله ومن حوله وقال: أنا مؤمن بـ
المذهب النفعي في الأخلاق، ثاروا عليه وسخروا منه، فسكت، وبعد ذلك لم يعد يتكلم في هذا الموضوع.
و
المذهب النفعي الذي نادى به
راسل وكرره: هو ما يؤمن به الغربيون اليوم، أن الأخلاق لا تقوم على أساس ديني، وإنما تقوم على أساس النفعية، فعندما يجب عليك أن تكون أخلاقك حسنة، فليس ذلك لانتظار ثواب، ولا لرجاء في الدار الآخرة، وإنما لمنفعتها، بمعنى أنك إذا كنت صادقاً ووفياً واحترمت الناس، فالناس سيحترمونك ويتعاملون معك، وستربح تجارتك، ويرضى عنك رؤساؤك، فتترقي في وظيفتك، وتكسب الناس، ولا تخسرهم... وهكذا.
ولذلك نشير إلى مسألة مهمة، وهي مسألة الحب والمحبة التي يكتب عنها كثيراً، ويسأل عنها في المقابلات، ولا نعني الحب الذي هو من ناحية المرأة.
فكثيراً ما يرد في كتابات الصحف: الناس أحوج ما يكونون إلى الحب، والحب مفقود بين الناس، وعاملوا الناس بحب.
وغالباً كل الأدباء والمحررين في الصحف تجدهم يتكلمون عن هذا المعنى، يسأل أحدهم: ماذا يفتقد إليه الناس في رأيك اليوم؟ فيقول: المحبة! ولا يذكر لك الأخلاق ولا الاستقامة ولا الدين.
وبعضهم يقول: إن الناس فقدوا رباط الحب، وبعضهم يفسر فقدان المحبة بكلام قريب من الدين، فيقول: ولذلك قطعوا الأرحام وما أشبه ذلك من العبارات.
إن هذا الحديث عن المحبة هو في الأصل من عادات النصارى؛ فإن الدين النصراني أصلاً يقوم على فكرة المحبة، ولهذا يقولون: الله محبة، وهكذا هي عقيدتهم، أي أن المحبة عندهم هي الشيء الذي يربط الناس، وليس لديهم نظام أخلاقي متماسك كما عندنا في الإسلام؛ فالإسلام يوضح للإنسان كيف يتعامل مع أبويه، وكيف يتعامل مع زوجته، وكيف يتعامل مع جيرانه، وكيف يتعامل مع ولي أمره، ويفصل له إذا كان مسئولاً أو ولي أمر كيف يتعامل مع من هم دونه.
فكل تلك المسائل والقضايا فيها أحكام مفصلة، فيها واجبات، وفيها حقوق، والعاطفة جانب من الجوانب، لكن الغربيين يفتقدون مثل هذا التفصيل، واعتقادهم نظري مجمل، ينبني على قضية عامة هي مجرد المحبة.
وحين جاء الفلاسفة وكفروا بـالنصرانية، قالوا: ندعو الناس إلى المحبة، فما الذي يضرنا؟! فلتبق المحبة لكن على أساس نفعي لا على أساس ديني؛ فيعلمون التاجر أهمية الصدق ويخبرونه بالفوائد الدنيوية التي سيجنيها إذا التزم بالصدق؛ من ثقة الناس به وكثرة زبائنه وزيادة أرباحه، ويقولون له: ليكن صدقك لأجل ذلك لا لنيل الأجر من الله في الآخرة؛ فتوصلوا بذلك إلى مرادهم.
وهذا هو السبب فيما هو مشاهد عن الغربيين من انضباط في أعمالهم، والتزام في مواعيدهم، ودقة في مواصفات بضائعهم؛ فحكوماتهم وأنظمتهم قد التزمت بهذا وألزمتهم به.
ومن المسلمين من يفتتن بذلك، ولا سيما وهو يشاهد انحطاط كثير من المسلمين.
والحقيقة أن صدقهم نفعي، وانضباطهم إنما هو لمنفعة، ثم إذا سنحت لهم فرصة للسرقة أو الغش دون أن ينتبه لذلك أحد، استغلوا تلك الفرصة وليس لهم عنها رادع من دين أو خلق متين.
فأي صدق هذا الذي يوصفون به؟! وأي أخلاق هذه التي يتشدقون بها؟! كل ما هنالك أنهم ينظرون في حساب مصالحهم إلى المدى الطويل ويخططون لها؛ لا كما يفعل المنحطون من المسلمين؛ حين يكذبون على الناس فيكتشف الناس كذبهم، ويسقطون من التجربة الأولى.